هل التبرع واجب ؟ هذا العدد لن يتناول العمل الأخلاقي من وجهة نظر دينية، بل يكتفي بتسليط الضوء على مقالة مثيرة للاهتمام للفيلسوف الأسترالي المثير للجدل بيتر سنجر.
هذا الفيلسوف معروف بـآرائه المتطرفة والتي ترتكز على المذهب النفعي الذي يحاول الوصول لأكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. هذا التصور جعل الفيلسوف يعتبر أي عنف على الحيوانات أمرا غير مقبول، وحتى استعمالها في التجارب والمختبرات عملا غير أخلاقي.
لكن هذا ليس موضوع هذا العدد. الموضوع يهتم ببساطة، بفكرة التبرع للجمعيات الخيرية والفقراء والمحتاجين. هل هو فعل إضافي واجتهاد شخصي أم أمر واجب على الجميع القيام به؟
في التصور العام للناس في المجتمعات الاستهلاكية، يُعتبر التبرع والصدقات اجتهادا شخصيا، بل هناك من يشكك أصلا في جدواها. لكن سنجر يقول أن التبرعات واجبة بمنظور أخلاقي بحت.
المحتويات
1. نتائج فلسفة سنجر للإجابة عن سؤال : هل التبرع واجب ؟
في الورقات البحثية التي نشرها سنجر عام 1972 تحت عنوان الجوع الترف والأخلاق يطرح بيتر مجموعة من الحجج المنطقية التي وصل بها لعدة نتائج مثيرة للجدل:
- التبرع والمساعدة واجبات وليست مجرد اجتهاد شخصي.
- الترف والتبذير أمر غير أخلاقي.
- أغلب الناس العاديين أشرار.
يقترح سنجر أن الشخص الذي يشاهد طفلا يغرق ولا يتدخل لإنقاذه هو شخص شرير. هذا الطرح هو مجرد تشبيه للناس الذين يعيشون الترف، بينما يعاني الناس حولهم بسبب الجوع والمرض.
من هذا المنطلق، أصبح أي تبضع غير ضروري واستعمال رفاهية أمرا شريرا، لأن ما ستقوم بإنفاقه على شهواتك الشخصية قد ينقذ حياة شخص آخر في جوارك أو في جزء آخر من الكوكب.
هذا تصور سنجر عام 1972، فما بالك بتصوره الحالي للعمل الأخلاقي ونحن نرى الأثرياء حول العالم يشترون سيارات بملايين الدولارات ويضيعون المليارات لاقتناء جزر خاصة الخ.
2. الفرق بين الواجب والاجتهاد و هل التبرع واجب ؟
حسب سنجر، يمكن تقسيم الأنشطة التي نقوم بها إلى قسمين حسب المجتمع أو الواعز الأخلاقي:
- واجب (Obligatory).
- اجتهاد شخصي (نافلة بالمعنى الأخلاقي أو Supererogatory).
يعتبر الناس عموما، أن القيام بالتبرع للجمعيات الخيرية ومساعدة الفقراء والمحتاجين اجتهاد شخصي وليس واجبا. فمن يقوم بالأنشطة الخيرية يحصل على التقدير والشكر، والشخص الذي لا يقوم بالعمل الخيري لا تتم محاكمته أو اتهامه بالتقصير أو إحراجه بسبب عيشه في ترف رغم حاجة وجوع غيره.
يعتبر سنجر أن هذا التفكير يجعل التبرع أو المساعدة أمرا غير مُبرر عقلانيا. لذلك -حتى يكون العمل الخيري مُبررا- يجب أن يكون التبرع أمرا واجبا. وإلا لكان من غير المعقول، أن يقوم شخص ما بالتضحية بالمال الذي جمعه لشراء سيارة جديدة أو ثياب غالية لمساعدة شخص آخر.
إذا لم تساعد في محاربة الجوع والأمراض –حسب سنجر– فأنت تقوم بخطيئة أخلاقية. وكلما اشتريت شيئا لرفاهيتك أو شيئا لا تحتاجه فأنت تقوم بشيء غير أخلاقي.
3. منهجية سنجر في الإجابة عن سؤال هل التبرع واجب ؟
اعتمد بيتر على تسلسل منهجي على 4 مراحل لتأكيد فلسفته. هذه الحجج ليست مرتبة بنفس الطريقة على الورقات البحثية، لكن هذه أبسط طريقة لفهم التصور الفلسفي وراء الاعتقاد أن العمل التطوعي أو التبرع أو التضحية بالرفاهية من أجل إنقاذ الآخرين أمور ضرورية.
أ. القدرة على مواجهة الشر
بدأ سنجر منهجيته بتصور عام لكنه مهم جدا لبقية التحليل. فهو يعتبر:
- كل شخص يستطيع منع حدوث أمر سيء -دون التضحية بقيمة أخلاقية- عليه التدخل ومنع حدوثه.
هذا الطرح البسيط والعام هو لب كل فلسفة سنجر. وكل الاستنتاجات القادمة مبنية مباشرة عليه.
ب. الشر
يواصل سنجر طرح الأفكار العامة لكن هذه المرة بفكرة أبسط وأكثر سهولة على الإقناع:
- الجوع والأمراض والموت والإعاقة والألم أمور سيئة.
تبدأ من هذه المرحلة الفكرة العامة لمنهجية سنجر في التبلور، لتبرير اعتقاده أن عمل الخير ضرورة أخلاقية.
ج. المقتنيات الكمالية ليست أخلاقية
بالعودة للنقطة الأولى، لا يمكن اعتبار المشتريات الخاصة بالرفاهية من القيم الأخلاقية. فالمسبح في البيت أو السياحة لا تدخل تحت مظلة القيم الأخلاقية:
§الإنفاق على الرفاهية ليس له قيمة أخلاقية.
هنا يظهر معيار سنجر وكيف سيجعل كل المقتنيات غير الضرورية أفعالا غير أخلاقية.
د. التبرع
هنا يضع سنجر النقاط على الحروف ويوضح فلسفته بطريقة صارمة:
- التبرع للجمعيات الخيرية يمكن أن نقلل من المرض والجوع ومصادر الألم والموت.
هناك يكمل سنجر حشد مؤيداته التي تصل حتما للنتيجة التالية:
” أخلاقيا، علينا التبرع بالأموال التي ننفقها على الرفاهية للجمعيات الخيرية“.
بيتر سنجر– فيلسوف أسترالي
4. مبررات عدم المساعدة
في العادة، يعتمد الناس على عدة طرق لتبرير عدم مساعدتهم للآخرين. لهذا قام سنجر بتقسيم المبررات لقسمين أساسيين. ورد عليهم بأمثولة بسيطة:
تصور أنك تشاهد طفلا يغرق في مسبح، هل ستقوم بتبليل ملابسك والقفز لإنقاذ الطفل؟ أم ستكتفي بالمشاهدة.
أ. البعد الجغرافي
يعتقد الكثيرون أنهم غير مضطرين لمساعدة الناس الذين يموتون جوعا في نصف الكوكب الآخر لأن تكاليف إيصال المساعدات قد تكون مئات أو آلاف المرات أكثر من قيمة المساعدة نفسها.
سنجر يرد على هذا التبرير بتسليط الضوء على العمل الجبار الذي تقوم به منظمات الإغاثة حول العالم، الأمر الذي مكن البشر من إيصال المساعدات بطريقة سريعة جدا وغير مكلفة. الأمر الذي يجعل مبرر البعد الجغرافي غير حقيقي في السبعينات، فما بالك به الآن.
لذلك يعتبر سنجر أن الطفل، اليوم، يغرق أمامنا جميعا. ويمكننا المساهمة في إنقاذ الطفل بأبسط الطرق وبأقل التكاليف ونحن نعرف تماما أن الأموال التي نتبرع بها ستصل حتما وفي سرعة البرق للمحتاجين.
ب. وجود آخرين قادرين على المساعدة
يعتقد الكثيرون أنهم غير ملزمين بالتبرع والمساهمة، لأن هناك الكثير من الناس القادرين على فعل ذلك. وبالعودة لمثال الطفل الذي يغرق، إذا كان هناك الكثير من الناس يشاهدون غرق الطفل. فالكثيرون منهم لن يحاولوا التدخل لأنهم سيتواكلون على غيرهم.
هنا يرد سنجر على هذا التبرير بالمرور لمستوى متطرف. فيقول: “تصور أنك كنت حاضرا على حادثة غرق وموت الطفل. ثم رويت ما حدث لأصدقائك. كيف سترد على سؤالهم لماذا لم تهرع لإنقاذ الطفل؟”.
وبما أن التبرير لن يكون عقلانيا أو منطقيا، فكل منا مطالب بإنقاذ الطفل حتى نتأكد أن هناك من قام فعلا بإنقاذه. والأهم أن هناك الملايين من الأطفال الذين يعانون حول العالم ويغرقون يوميا، فكيف سنرد على السؤال التالي: “لماذا لم تنقذوا الطفل؟”.
عموما توجد العديد من التبريرات التي يمكن أن يتبناها كل من لا يريد المساعدة. لكن تجدر الملاحظة أن بيتر سنجر يعيش فعلا كما يعتقد، ويكتفي بالقليل بينما يتبرع بكل ما يجنيه في العمل الخيري.
فهو في نهاية الأمر يعتقد أن التبرع وفعل الخير أمر ضروري وواجب أخلاقي على كل إنسان قادر.
5. نقد فلسفة سنجر
هذا القسم ليس موجودا في الورقات البحثية التي قدمها سنجر، بل هي مجموعة نقاط لنقد طرحه بصفة عملية:
أ. ترتيب الأولويات
دعوة الناس لمواجهة مشكل ما أمر جيد، لكن الأولى هو مواجهة أسباب المشكل من الأساس. فمحاربة الأمراض قد لا يكون الأمر الأجدى، بل الأجدى هو نشر التلاقيح.
وربما يكون سبب انتشار الأمراض هو عدم اقتناع الناس بالتلاقيح بسبب الجهل، فيكون من الأجدى التبرع لنشر المعرفة. وربما يكون سبب الجهل هو نظام سياسي أو توجه ديني. ولكل من هذه الأسباب حلول قد تكون ملائمة أو غير ملائمة.
فكيف نطلب من مجموعة بشرية أن تتخلى طواعية عن مكاسبها وحياة الرفاهية، من أجل مواجهة نتائج اختيارات مجموعة بشرية أخرى. فالحياة ليست بسيطة أو مسطحة بل هي شبكة معقدة من الأسباب والنتائج ولا أحد فعليا يستطيع أن يجبر “أخلاقيا” شخصا آخر بتحمل مسؤولية أفعال لم يقم بها.
فالطفل الذي يغرق في المسبح، قد يكون هو من يرمي نفسه في الماء في كل مرة ولا يعرف أنه سيموت إذا غرق. فهل نجد الناس لمراقبته طول اليوم؟
ب. قيمة التبرع
دعوة الناس للتبرع بالأموال التي ينفقونها للترفيه أمر مبالغ فيه، وغير دقيق. خاصة أن الفيلسوف لم يحدد قيمة المبلغ الذي علينا التبرع به أو النسبة على الأرباح التي علينا أن نتركها لأنفسنا. والأهم أن المال لا قيمة له بالأساس بل هو ورق اتفقنا على أن له قيمة.
مثال:
- سعر الطن الواحد من القمح هو 430 دولار عام 2023.
- الإنتاج العالمي للقمح عام 2022/2023 هو 781 مليون طن.
- سعر كل القمح في العالم لعام 2023 هو 335 مليار دولار.
إذن لو جمع شخص ما 500 مليار دولار عام 2023 فلن يستطيع شراء أكثر من 781 مليون طن من القمح لأن المال لا يخلق القمح.
لذلك مهما جمعنا من أموال، لن نستطيع أن نوفر الطعام، لكن التخطيط والاستثمار وخلق المنفعة يمر عبر أساليب أخرى بعيدة كل البعد عن التبرع.
عندما يغرق الأطفال في المسبح، لن نحتاج للمال لإنقاذهم، بل سنحتاج لأشخاص متدربين وقادرين على السباحة ويستطيعون الوصول للمسبح قبل أن يغرق الطفل. فالمسألة ليست مسألة جمع للمساعدات فقط بل مسألة تخطيط واستثمار في قدرات الناس.
ب. الركود
دعوة الناس للتبرع بالأموال التي كانوا يريدون إنفاقها في المقتنيات غير الضرورية قد يكون تفكيرا أقرب للتفكير الاشتراكي. لكن كل ما نعرفه أن التفكير الاشتراكي لم ينجح أبدا.
لنتصور أن كل الناس أصبحوا يعيشون على الكفاف ويمتنعون عن دفع أموالهم في المنتجات الباهظة أو الترفيهية. فهل سيصبح العالم مكانا أكثر فقرا أم أكثر غنى؟
على الأرجح أن العالم سيصبح أكثر فقرا، لأن آلات الحلاقة والسيارات والحواسيب والهواتف الذكية والقطع الموسيقية وثقافة الاستهلاك بصفة عامة هي سبب خلق الثروة.
أما لو اكتفى الناس بالحياة البسيطة والعيش على الكفاف، فستنهار القطاعات الترفيهية ثم اللوجستية والعلمية كقطع الدومينو.
فما هي نسبة الناس الذين يسافرون على الطائرات من أجل أمر ضروري؟
وماهي نسبة الصناعات المرتبطة بالترفيه مقارنة بالصناعات الضرورية للعيش؟
لو توقف الناس في دولة ما عن الاستهلاك فسيكون أثر ذلك على اقتصاد تلك الدولة كارثيا وسيؤدي للمزيد من البطالة والفقر والمجاعات والأمراض الخ.
لذلك عند جمع كل القوى الفاعلة في المجتمع لإنقاذ طفل من الغرق في المسبح، سنسبب موت الكثير من الأطفال لأسباب أخرى.
حوصلة – هل التبرع واجب ؟
التبرع بالمال أمر ضروري وأخلاقي، لكن من الصعب اتهام غير المتبرعين بالشر أو القسوة أو انعدام الأخلاق. فالحياة التي نعيشها ليست مجرد خط زمني بسيط بل هي مجموعة خطوط متشابكة ومترابطة. وقد يكون العمل بجد والتخطيط لخلق المنفعة أفضل عمل خيري لمساعدة المحتاجين حول العالم.
قامت الولايات المتحدة برصد المليارات لمساعدة الفقراء، لكن النتيجة كانت جنوحهم للكسل والاعتماد التام على تلك المساعدات المالية. لكن هذا لا يعني أن مساعدة المحتاجين أمر شرير.
كل ما في الأمر أن التعقيدات والتفاصيل تجعل اتخاذ القرار المناسب أمرا صعبا، لذلك يكتفي الناس بتبني سياسات عامة بهدف أن يعيش كل الناس بأفضل مستوى ممكن عمليا.
المصادر
.1ورقات علمية: Famine, Affluence, and Morality