كيف أفكر بمنطقية – رغم ادعائنا العقلانية والعدل، إلا أن الصراعات النفسية والفكرية لا تتوقف. فهل يعني هذا أن المنهج العقلاني عاجز عن إبلاغ البشر للجنة المزعومة؟
أصبحت الاختلافات الاقتصادية والسياسية وحتى الدينية مغلفة بادعاء “العقلانية” و”التفكير السليم” وأن المختلف عني هو بالضرورة غير عقلاني.
فهل:
- يوصل التفكير العقلاني كل الناس لنفس النتيجة؟
- نستطيع معرفة مخاطر التفكير العقلاني؟
- نستطيع اتباع نتائج التفكير العقلاني؟
وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق.
المحتويات:
- طريقة عمل التفكير العقلاني
- مصادر المعرفة
- استحضار المعارف القديمة
- الاستنتاج
- التعلم
- التفكير المنطقي
- حوصلة
0. طريقة عمل التفكير العقلاني
التفكير العقلاني (Rationalism) منهجية تعتمد أساسا على العقل والمنطق، بناء المعارف والمعتقدات. على عكس التفكير المثالي (Idealism) أو الدغمائي (Dogma)، يحاول التفكير العقلاني التقيد بالحقائق والمنطق. لكنه ينتهي باختلافات شديدة ونتائج مختلفة. لأنه يتأثر بعدة عوامل خارجية.
نتيجة التفكير العقلاني مهددة في كل مرحلة من المراحل، وكل مرحلة يمكن أن تشوه الحقيقة الجديدة التي قد تؤمن بها في المستقبل.
عند تبسيط عملية التفكير، يمكن تقسيمه لـ 4 مراحل على الأقل:
- استقبال المعرفة الجديدة: وقد تكون من أي مصدر.
- استحضار المعارف القديمة المرتبطة بها: للمقارنة والتثبت.
- التفكير: للحصول على نتيجة عقلانية.
- التعلم: لتحديث المعارف الشخصية.
تتكرر هذه الرحلة -نظريا على الأقل- عند استقبال كل معلومة جديدة. باعتبار أن كل الناس يتبنون المنهج العقلاني في التفكير، ولا يسمحون لعواطفهم أو انتمائهم أن تشوه طريقة تفكيرهم.
لكن للأسف رغم هذا المنهج الذي قد يبدو صارما، إلا أنه مهدد من عدة جوانب:
- المعلومات الزائفة.
- المعطيات غير الدقيقة.
- طريقة التفكير الخاطئة.
- الاستنتاجات المعيبة.
” لست خارق الذكاء، كل ما في الأمر أني أفكر في المشكلة لوقت أطول“.
ألبرت أينشتاين – فيزيائي سويسري أمريكي.
1. مصادر المعرفة – كيف أفكر بمنطقية
بفضل الثورة التقنية، أصبح الناس العاديون يتلقون كميات كبرى من “المعلومات” يوميا، على شاشات التلفاز، وفي الصحف وعلى المواقع الإخبارية وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن كل هذه المعلومات ليست سوى كمية قليلة جدا من المعارف التي نجمعها يوميا بوعي أو دون وعي.
تعلم قيادة السيارة، أو مهارات التقاط الكرة، أو الحوارات الاجتماعية، كلها تجارب مع العالم الخارجي، وكلها تزودنا بمعلومات جديدة كل يوم.
كل هذه المصادر، قد تكون:
- مظللة
- خاطئة
- مفبركة
- صحيحة
- غير دقيقة
- غير مكتملة
وهذا من شأنه أن يؤثر بطريقة كارثية على نتائج التفكير العقلاني.
وإذا افترضنا أن البروباغاندا التي تطلقها الحكومات والأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية ناجحة، فهذا يعني أن حتى أعتى الفلاسفة والمنطقيين قد يصلون لنتائج مختلفة بسبب اختلافات مصادر المعرفة.
فما بالك بالطيبين الذين يلتهمون “الأخبار” من كل مكان دون نقد أو تدقيق.
عند الحصول على معلومة جديدة، نتوقع نظريا أن المفكر العقلاني قادر على حماية نفسه منها عبر مقارنتها بالمعطيات القديمة.
التفكير العقلاني يرفض الدغمائية والتشبث بالمعارف القديمة إذا تعارضت مع الحقائق والمعارف الجديدة.
وإذا كان المفكر العقلاني لا يملك معطيات كافية لتقييم الوضع، قد ينتهي به الأمر بتصديق المعلومة الجديدة.
ملاحظة: الأفلام الوثائقية من أكثر المصادر المغلوطة انتشارا، إذ يعتقد الناس أنها مصادر علمية، بينما هي مجرد أفلام ترفيهية. وكل الحيوانات تحتاج الماء للعيش.
2. استحضار المعارف القديمة
يعتقد الكثيرون أنهم متحررون ومنفتحون على كل المعارف. لكنهم في الحقيقة، مقيدون للمعارف والمعتقدات التي لُقنوها وهم أطفال، وخلال فترات الدراسة والعمل.
لذلك تصبح عملية استقبال المعارف الجديدة مرتبطة بما تم بناءه أثناء الطفولة.
كما أن استحضار المعارف الجديدة يكون عُرضة للتحيزات وأخطاء الذاكرة.
لا تعمل الذاكرة بطريقة منهجية، بل تعتمد أكثر على المشاعر.
يمكن للذاكرة أن تعاني من:
- الحجب: نسيان بعض الذكريات (الأسماء والأرقام والأماكن الخ).
- الزوال: تضيع الذكريات ولا يمكن تذكر وجودها أصلا.
- الذكريات الكاذبة: يمكن تذكر أحداث لم تحدث أصلا.
- التحيز لبعض الذكريات ونسيان غيرها.
وبهذا تصبح عملية التذكر في حد ذاتها مشكلة حقيقية.
لهذا لا تعتمد الكتابات العلمية على الذاكرة، بل على المراجع لبناء تفكير منهجي وتقليل خطر النسيان والتحيز.
ولهذا أيضا يُعتبر أي عمل فكري غير مدعم بالمصادر مجرد وجهة نظر.
عند تذكر المعلومة القديمة، نتوقع نظريا أن المفكر العقلاني قادر على تذكر البيانات بكل دقة، وهذا غير صحيح.
يمكن أن تؤثر الذكريات الخاطئة والانحيازات على القرارات العقلانية. مثال ذلك ظاهرة “أثر مانديلا” التي تكشف كيف تقوم ذاكرة الآلاف من الناس بتخيل ذكريات غير حقيقية.
3. الاستنتاج – كيف أفكر بمنطقية
بعد الحصول على معلومة جديدة، وتذكر المعلومات القديمة، يمر العقل للاستنتاج الذي يمثل تحديا آخر.
العقل البشري لا يعمل بكل طاقته لحل المشاكل، وليس آمنا من الأخطاء.
فضلا عن أخطاء التسرع والمغالطات المنطقية والتحيزات، يمكن أن يقع المفكر العقلاني في مجموعة أخطاء منهجية تسبب وصوله لنتائج غير صحيحة حتى إذا عملت ذاكرته بطريقة صحيحة واستقبل معلومة صحيحة.
من أهم الأخطاء المنهجية التي تؤثر على التفكير العقلاني:
- الإفراط في التحليل: التفكير في مسائل تافهة أو وجهات نظر.
- قلة البيانات: التفكير دون الحصول على بيانات كافية.
- تجاهل العواطف: اعتبار أن ردود فعل الآخرين يجب أن تكون مثالية.
- التركيز على الحاضر: إهمال التبعات بعيدة المدى.
- التشبث بنموذج واحد: الاكتفاء بمنهج تفكير عقلاني واحد.
- البناء على الجهل: عدم إثبات خطأ فكرة ما لا يعني صحتها.
- التعميم: الاعتماد على بيانات قليلة لتعميم النتيجة.
- التفكير الدائري: تحتاج الخبرة للعمل، العمل يعطيك الخبرة.
عند الحصول على بيانات صحيحة وتذكر المعلومات المتعلقة بها بشكل صحيح، نتوقع نظريا أن المفكر العقلاني قادر على الوصول لاستنتاج صحيح.
الوصول لاستنتاجات مغلوطة بناء على بيانات صحيحة أمر شائع، ويتطلب التفكير العقلاني والتركيز في كل معلومة تصلك.
لكن هذا التصرف غير عقلاني، لأن كمية المعلومات التي تصل للناس يوميا مهولة ولا يمكن تمريرها كلها عبر غربال التحليل المنطقي والتفكير البطيء.
مثال: يستهلك المواطن الأمريكي حوالي 34 غيغابايت من البيانات يوميا.
4. التعلم – كيف أفكر بمنطقية
بعد الحصول على معلومة جديدة، وتذكر المعلومات القديمة، والوصول لاستنتاجات صحيحة، نظريا يمكن أن نقول أن المفكر العقلاني وصل لمعلومة إضافية حقيقية.
لكن تلك المعرفة تبقى مهددة بكل أنواع تحديات التعلم، كـ:
- تضارب المعلومات: قد يحدث تضارب للمعلومات دون وعي.
- ضعف المنهجية: عدم الاعتماد على منهجية عامة.
- تحديات الذاكرة: نسيان أو التحيز ضد ما يتم تعلمه.
- التشتت: عدم التركيز على مخرجات عملية التفكير.
- قلة الثقة: الشك في النتائج التي يتم الوصول لها.
- الحواجز الثقافية: الامتناع عن تصديق المعارف الجديدة.
- التحديات العاطفية: عدم القدرة على اعتماد نتائج التفكير العقلاني.
” أنا إنسانة أكثر من كوني عقلانية“.
كارين أسكس – كاتبة وصحفية أمريكية.
عند اجتماع المعرفة الكافية ومهارات التفكير العلاني، ورغم الوصول لنتائج منهجية، إلا أن البشر قد لا يتصرفون بطريقة عقلانية.
نحن ندعي أننا عقلانيون، لكننا نتبع عواطفنا وأحلامنا.
بغض النظر عن الوصول للنتائج المنقطية، يختار الكثيرون اتباع مشاعرهم وأحاسيسهم تحت عنوان عدة مسميات كـ :
- الانتماء: لمجموعة أو طائفة أو حتى شخص الخ.
- الإيديولوجيا: الدينية أو الاقتصادية أو السياسية الخ.
- المشاعر البدائية: الخوف أو الشهوة أو الطمع الخ.
5. طريقة التفكير المنطقي
نحب تصديق أن المنهج العلمي يصل بنا لأفضل النتائج، لكنه غير محمي من الانحيازات وتحديات التمويل ومخاطر النشر.
يحتوي المنهج العلمي على أفضل الحلول العملية للوصول إلى نتائج أقرب للصحة.
لذلك يمكننا تجنب تحديات التفكير العقلاني عبر تبني مبادئ المنهج العلمي على غرار:
- ضبط منهجية دقيقة بمدخلات واضحة ووضع الفرضيات.
- التأكد من قابلية دحض الفرضيات.
- اعتماد مصطلحات واضحة ودقيقة.
- توثيق كل المعطيات التجريبية أو المنطقية الخ.
- ضبط شروط إمكانية تكرار التجارب والحصول على نفس النتائج.
- توثيق كل النتائج حتى وإن كانت تتعارض مع الفرضيات.
- الاعتماد على مصادر موثوقة.
- مشاركة البيانات والنتائج وخطوات البحث.
- الاعتماد على مراجعة الأقران عبر النشر والنقاش.
كيف أفكر بمنطقية – حوصلة
التفكير العقلاني مطلب أساسي لحياة أكثر سهولة وبأقل تعقيدات، لكن البشر غير قادرين – لعدة أسباب – على التفكير المنطقي.
وحتى إذا نجح البشر في التفكير بمنطقية والوصول لنتائج هامة، فإن تطبيقها يبقى مجرد أحلام وتخيلات قد لا تصل لمرحلة التطبيق.
الحياة الاجتماعية والنفسية والثقافية للبشر تمنعهم من ممارسة العقلانية بصفة شاملة.
المنهج العقلاني وإن كان ممكنا إلا أنه قد لا يعطي نفس النتائج بسبب اختلاف الثقافات والخلفيات العلمية.
توثيق مخرجات التفكير العقلاني، والاعتماد على المصادر ومراجعة الأقران ضروري للوصول لنتائج حقيقية، ولتفعيل النتائج في المستقبل.